ستالينغراد 43: كيف تهزم الحصار [1]
«لا أرض لدينا خلف نهر الفولغا»
شعارٌ شاع بين المدافعين عن المدينة
«لا تعدّوا الأيّام، لا تعدّوا الأميال
احتفظوا فحسب بعدد الألمان الذين قتلتموهم
اقتلوا الألمان ــ هذه صلاة أمّكم
اقتلوا الألمان ــ انّها صيحة الأرض الرّوسيّة
لا تتردّدوا، لا تتراجعوا»
من نداء وجّهه الكاتب ايليا اهرينبيرغ في صحيفة «النّجم الأحمر»، أيلول 1942
كان شهر آب في أواخره عام 1942 حين أطبقت على ستالينغراد، من جهتين، الجيوش النازيّة على شكل كمّاشة. من الشمال الغربي تقدّم الجّيش السّادس الألماني بقيادة باولوس، وهو أكبر وأهمّ التشكيلات العسكرية في الـ«فيرماخت» (كان هتلر يقول: «أستطيع أن أقتحم السّماوات بالجيش السّادس»). ومن الجنوب الغربي زحف على المدينة جيش البانزر الرّابع، نخبة المدرّعات الألمانيّة؛ وهكذا بدأت المعركة.
شعارٌ شاع بين المدافعين عن المدينة
«لا تعدّوا الأيّام، لا تعدّوا الأميال
احتفظوا فحسب بعدد الألمان الذين قتلتموهم
اقتلوا الألمان ــ هذه صلاة أمّكم
اقتلوا الألمان ــ انّها صيحة الأرض الرّوسيّة
لا تتردّدوا، لا تتراجعوا»
من نداء وجّهه الكاتب ايليا اهرينبيرغ في صحيفة «النّجم الأحمر»، أيلول 1942
كان شهر آب في أواخره عام 1942 حين أطبقت على ستالينغراد، من جهتين، الجيوش النازيّة على شكل كمّاشة. من الشمال الغربي تقدّم الجّيش السّادس الألماني بقيادة باولوس، وهو أكبر وأهمّ التشكيلات العسكرية في الـ«فيرماخت» (كان هتلر يقول: «أستطيع أن أقتحم السّماوات بالجيش السّادس»). ومن الجنوب الغربي زحف على المدينة جيش البانزر الرّابع، نخبة المدرّعات الألمانيّة؛ وهكذا بدأت المعركة.
على مشارف المدينة
من الجهة الأخرى، كانت القوّات السوفياتية في حالة تراجعٍ وانهزام. الهجوم الروسي في بداية الصيف على جبهة خاركوف قد فشل، وتمّت محاصرة وتدمير عدّة جيوش سوفياتية، وتقدّم الألمان بسرعةٍ وتجاوزوا نهر الدون، ثم وصلوا الى نهر الفولغا (الأرض الجافة والقاسية في الصيف كانت تسمح بانسياب المدرّعات بسرعةٍ في السّهوب).
قرب ستالينغراد، ينعطف الدون ليقترب بشكلٍ كبيرٍ من الفولغا، فيشكّل النهران ما يشبه «جبهةً طبيعية». كلّ ما كان على الألمان فعله بعد أخذ ستالينغراد هو أن ينزلوا على طول الفولغا وصولاً الى مصبّه في استراخان، على بحر قزوين، لينجحوا في قسم روسيا بأكملها الى شطرين: جنوبي غرب النهر، وشمالي خلفه. هكذا تُعزل الجيوش الروسية في القوقاز عن باقي البلد، ويحصل هتلر على حقول النفط في اذربيجان (فيما تُحرم موسكو من هذا المورد الاستراتيجي)، ويؤمّن النظام النازي الأقاليم التي اجتاحها في اوكرانيا وروسيا خلف حاجزٍ نهريّ منيع.
أدولف هتلر، هنا تحديداً، لم يكن مخطئاً في توجيه جيوشه جنوباً (بدلاً من موسكو، كما لامه العديد من الجنرالات في مذكراتهم بعد الحرب). هو فهم، بعد سنةٍ من الغزو، أنّ رهانه على تدمير النظام البلشفي خلال فترةٍ قصيرة لن يتحقّق، وأنّ اميركا دخلت الحرب وأصبح ميزان الموارد والديمغرافيا في غير صالح الألمان. الخطة هنا، في السيطرة على اوكرانيا والقوقاز، كانت أن يحصّن الألمان أنفسهم بشكلٍ يمنع استمرار الاستنزاف في الشّرق، فيما هم قد سيطروا على موارد ــ زراعية وطاقوية ــ تسمح لهم بالتحضّر لحربٍ طويلةٍ ضدّ الحلفاء (حتى قبل المعركة، كان هتلر يعترف بأنّه، لو لم يحصل على النفط الروسي، فهو سيضطرّ الى «طلب السلام»).
كلّا، الخطأ الحقيقي لهتلر (وقد ماشاه فيه أغلب ضبّاطه) كان في القرار الأصلي باجتياح الاتّحاد السوفياتي، واعتقاده بأنه قادرٌ على اقتحام موسكو في أسابيع، وأن نظام ستالين مترهّلٌ وعلى وشك السّقوط، وإصراره المستمر على أنّ الاحتياطات البشرية في روسيا قد نفدت، وأنّ كلّ معركة هي «المعركة الأخيرة» والطلقة المتبقّية لستالين. بل إنّك تفهم لماذا لم يتوقّع ستالين الهجوم الألماني ولم يتحضّر له، فهو يخالف مبادئ المنطق (وتفهم ايضاً لماذا قبل ستالين بالحفاظ على معاهدة عدم الاعتداء مع المانيا، وترك الغرب يتحارب مع ربيبه، فهي لم تكن معركته). النّتيجة كانت أنّ الحرب العالمية الثانية قد خيضت فعليا على الجبهة الشرقيّة وحدها، ودفع السوفيات أكثر الثّمن. بحسب أرقام الباحث جيفري روبرتس، فإنّ 80% من كل العمليات العسكرية في الحرب (من صحارى افريقيا الى الباسيفيك) قد جرت على الجبهة الشرقيّة، وأكثر من 90% من خسائر الألمان كانت عليها ــ أي أنّ كل عملياتهم في اوروبا الغربية، من حملات فرنسا وبولندا وصولاً الى النورماندي وايطاليا، لم تكن أكثر من نزهةٍ بالمقارنة.
بتعابير أخرى، هتلر كان هنا تماماً مثل اللاعب الغبي في لعبة «ريسك»، الذي لن ينافس على الفوز في كلّ الحالات ولكنّه، بحركاته اللاعقلانية والطائشة، يؤذي نفسه ويؤذيك ويُهدي النّصر لمن لا يستحقّ (ومن هنا أنت تتعلّم في الصّغر أن لا تضع مهارتك وسمعتك على المحكّ، وتلعب مع أيّ كان. المشكلة هي أنّ الكثير منّا ينسى هذه القاعدة الذهبية حين ننتقل الى سنّ الرّشد والحياة «الحقيقية»). قبل عامٍ من ستالينغراد، حين وصل الغزو الألماني الى أوجه واقترب من موسكو، فكّرت القيادة الروسية بفتح محادثاتٍ مع الألمان واستدعت لهذه الغاية السفير البلغاري في موسكو. يروي انتوني بيفور أنّ مولوتوف دُهش حين نصحهم البلغاري بالقتال وعدم التّفاوض ورفض، بحزمٍ، أن يلعب دور الوساطة: «حتّى ولو تراجعتم الى الأورال»، قال لهم، «فسوف تنتصرون في النّهاية. »
قرب ستالينغراد، ينعطف الدون ليقترب بشكلٍ كبيرٍ من الفولغا، فيشكّل النهران ما يشبه «جبهةً طبيعية». كلّ ما كان على الألمان فعله بعد أخذ ستالينغراد هو أن ينزلوا على طول الفولغا وصولاً الى مصبّه في استراخان، على بحر قزوين، لينجحوا في قسم روسيا بأكملها الى شطرين: جنوبي غرب النهر، وشمالي خلفه. هكذا تُعزل الجيوش الروسية في القوقاز عن باقي البلد، ويحصل هتلر على حقول النفط في اذربيجان (فيما تُحرم موسكو من هذا المورد الاستراتيجي)، ويؤمّن النظام النازي الأقاليم التي اجتاحها في اوكرانيا وروسيا خلف حاجزٍ نهريّ منيع.
أدولف هتلر، هنا تحديداً، لم يكن مخطئاً في توجيه جيوشه جنوباً (بدلاً من موسكو، كما لامه العديد من الجنرالات في مذكراتهم بعد الحرب). هو فهم، بعد سنةٍ من الغزو، أنّ رهانه على تدمير النظام البلشفي خلال فترةٍ قصيرة لن يتحقّق، وأنّ اميركا دخلت الحرب وأصبح ميزان الموارد والديمغرافيا في غير صالح الألمان. الخطة هنا، في السيطرة على اوكرانيا والقوقاز، كانت أن يحصّن الألمان أنفسهم بشكلٍ يمنع استمرار الاستنزاف في الشّرق، فيما هم قد سيطروا على موارد ــ زراعية وطاقوية ــ تسمح لهم بالتحضّر لحربٍ طويلةٍ ضدّ الحلفاء (حتى قبل المعركة، كان هتلر يعترف بأنّه، لو لم يحصل على النفط الروسي، فهو سيضطرّ الى «طلب السلام»).
كلّا، الخطأ الحقيقي لهتلر (وقد ماشاه فيه أغلب ضبّاطه) كان في القرار الأصلي باجتياح الاتّحاد السوفياتي، واعتقاده بأنه قادرٌ على اقتحام موسكو في أسابيع، وأن نظام ستالين مترهّلٌ وعلى وشك السّقوط، وإصراره المستمر على أنّ الاحتياطات البشرية في روسيا قد نفدت، وأنّ كلّ معركة هي «المعركة الأخيرة» والطلقة المتبقّية لستالين. بل إنّك تفهم لماذا لم يتوقّع ستالين الهجوم الألماني ولم يتحضّر له، فهو يخالف مبادئ المنطق (وتفهم ايضاً لماذا قبل ستالين بالحفاظ على معاهدة عدم الاعتداء مع المانيا، وترك الغرب يتحارب مع ربيبه، فهي لم تكن معركته). النّتيجة كانت أنّ الحرب العالمية الثانية قد خيضت فعليا على الجبهة الشرقيّة وحدها، ودفع السوفيات أكثر الثّمن. بحسب أرقام الباحث جيفري روبرتس، فإنّ 80% من كل العمليات العسكرية في الحرب (من صحارى افريقيا الى الباسيفيك) قد جرت على الجبهة الشرقيّة، وأكثر من 90% من خسائر الألمان كانت عليها ــ أي أنّ كل عملياتهم في اوروبا الغربية، من حملات فرنسا وبولندا وصولاً الى النورماندي وايطاليا، لم تكن أكثر من نزهةٍ بالمقارنة.
بتعابير أخرى، هتلر كان هنا تماماً مثل اللاعب الغبي في لعبة «ريسك»، الذي لن ينافس على الفوز في كلّ الحالات ولكنّه، بحركاته اللاعقلانية والطائشة، يؤذي نفسه ويؤذيك ويُهدي النّصر لمن لا يستحقّ (ومن هنا أنت تتعلّم في الصّغر أن لا تضع مهارتك وسمعتك على المحكّ، وتلعب مع أيّ كان. المشكلة هي أنّ الكثير منّا ينسى هذه القاعدة الذهبية حين ننتقل الى سنّ الرّشد والحياة «الحقيقية»). قبل عامٍ من ستالينغراد، حين وصل الغزو الألماني الى أوجه واقترب من موسكو، فكّرت القيادة الروسية بفتح محادثاتٍ مع الألمان واستدعت لهذه الغاية السفير البلغاري في موسكو. يروي انتوني بيفور أنّ مولوتوف دُهش حين نصحهم البلغاري بالقتال وعدم التّفاوض ورفض، بحزمٍ، أن يلعب دور الوساطة: «حتّى ولو تراجعتم الى الأورال»، قال لهم، «فسوف تنتصرون في النّهاية. »
أبطال وشياطين
من المثير أن تقرأ عن ستالينغراد من مصدرين متعارضين، ككتاب انتوني بيفور الشهير (بينغوين، 2007) وكتاب جيفري روبرتس «النّصر في ستالينغراد» (لونغمان، 2002). كتاب بيفور يمثّل التأريخ الغربي «الرسمي» للمواجهة بين ستالين وهتلر، وهو كتابٌ وافٍ ومنتشر، جاء ليستبدل سابقه «العدوّ على الأبواب» (لوليم كريغ، وهو الذي تمّ تحويله الى فيلمٍ هوليوودي، وكان الكتاب الأوسع انتشاراً عن ستالينغراد منذ السبعينيات). رغم التحديث والتفاصيل والمعلومات الأرشيفية الجديدة، الّا أنّ السردية العامة تظلّ نفسها: نكره ستالين ولكننا نكره هتلر أكثر، نريد لروسيا الانتصار ولكن ليس بشدّة، نمدح تضحيات الجنود الأفراد ونذمّ النظام الذي قاتلوا تحت رايته، وبدلاً من أن نفسّر كيف ربح النظام الحرب، يصبح هدف الكتاب «تبرير» النّصر على يد قائدٍ مثل ستالين (ولا تنسى أن تذكر، على الأقل مرة كل صفحتين، قسوة النظام العسكري و«الرعب الستاليني» ــ في الحقيقة، لو كانت القسوة هي ما يجعل الجيوش تنتصر لكان الجيش الروماني في ستالينغراد هو أكفأ المتقاتلين؛ ولكنّه كان نقطة الضعف التي عبر فوقها، من جهتين، الرّوس لحصار الألمان والجيش السادس). بل إنّ بيفور، في أكثر من مكان، يبدو وكأنه يفضّل هتلر على ستالين «الأفضلية العظيمة لستالين على هتلر»، يقول بيفور في تفسيره لانتصار السوفيات، «هي أنّه لم يكن يملك خجلاً على المستوى الايديولوجي»؛ أي أن ستالين انتصر على هتلر ــ في عرف بيفور ــ لأنّه كان «أكثر دناءة» منه! (ولن نتكلّم هنا عن مستوى «الخجل الايديولوجي» والمبدأية لدى النخب الغربية، الذين دعموا حزب هتلر بل واختاروه عام 1938، عبر مجلة تايمز، «شخصية العام»). روبرتس، بالمقابل، يرتكز أكثر على وجهة النظر الروسية، وعلى سؤالٍ مركزي هو كيفية صناعة نصرٍ لم يكن أحدٌ يتصوّره ممكناً.
من السهل أن ترسم السردية التي تريدها عن معركة كستالينغراد بسبب حجمها وعدد الفاعلين والمقاتلين والضحايا. يمكنك أن تروي القصّة على أيّ مستوى. النّخب التي تواجهت كانت أسطوريّة: لديك هتلر وفريقه، وجنرالات مثل ويلهلم باولوس وفون مانستين، وعندك على الجهة الأخرى، ستالين وغرفة قيادته «الستافكا»، ومعه ضبّاط من طراز جوكوف وتيموشينكو؛ وفي الجنوب خروتشيف ويريمينكو ينظّمان الدفاع عن المدينة المحاصرة؛ وشويكوف وجيشه الـ62 الذي حمل عبء الدفاع في وجه الإعصار الألماني وقاتل قتالاً يائساً لأكثر من خمسة أشهر (في أكثر المراحل حراجة، حين وصلت القوات النازية فعليا الى مدخل مقرّ شويكوف، طالب بأن ينقل جزء من غرفة القيادة الى خارج المدينة، على الضفة المواجهة من الفولغا، فواجهه خروتشيف ويريمينكو برفضٍ قاطع؛ التزاماً بمقولة «لا خطوة الى الوراء»). في الجيش الجوي الثامن السوفياتي، وحده، كنت تجد أبناء لخروتشيف وميكويان وستالين نفسه يقودون الطائرات دفاعاً عن المدينة ــ وحين زار مالينكوف، ممثلاً ستالين، قيادة الجيش الجوي استدعى الطيّار فاسيلي ستالين وتقصّد أن يقرّعه ويذلّه ويهدّده أمام زملائه بسبب أدائه القاصر: «ايها الرّائد ستالين... هل نسيت كيف تقاتل؟».
ولكنّها قصص «الناس العاديين» التي لا يمكن حصرها، والكمّ الهائل من الموت والعنف والدمار الذي لا يمكن أن تخرج منه بـ«قصّة» (أو تخرج بالقصة التي تريدها): حرس الحدود الرّوس الذين قتلوا في القصف وهم نائمون، مع عائلاتهم، ما أن بدأ الغزو الألماني و«بارباروسا» (قبل أن يعرفوا حتى أنهم في حالة حرب). آلاف المدنيين الذين قضوا في الغارات الاستهلالية فوق ستالينغراد. الطالبات الروسيات اللواتي كنّ يتولين بطاريات الدفاع الجوي حول المدينة، بعيداً عن خطّ الجبهة، ليفاجأن بالدبابات الألمانية تقترب من مواقعهنّ، فقمن فوراً بخفض المدافع الى مستوى الأفق واستخدامها ضدّ الدبابات المتقدّمة، في فعلٍ يائس، حتّى الموت. المدافعون في قلعة «برست ــ ليتوفسك على الحدود، الذين ظلّوا يقاتلون حتى بعد أن أصبح الجيش الألماني في كييف وبيلوروسيا (نقش أحدهم على الحائط «أنا أموت ولكني لا أستسلم. وداعاً يا وطني»). أو أمور بسيطة، مثل البرقيّة الأخيرة من وحدة في الجيش الأحمر الى غرفة القيادة في الفرقة «المدافع دُمّرت. البطارية محاصرة. نحن نقاتل ولن نستسلم. أطيب التحيّات للجميع».
بل إنّ أهمّ القصص، من غير شكّ، هي تلك التي لم تصلنا ولم تسجّل، ومات أصحابها من غير أن يرووها؛ وهذه من معضلات تاريخ الحروب اذ أنّ أفضل النّاس والشجعان هم عادةً من يموت فيها، وحين يأتي المؤرّخون بعد عقودٍ، لتسجيل الأحداث، يجمعون الروايات من ذاك الذي أبقى رأسه منخفضاً في الخندق.
من السهل أن ترسم السردية التي تريدها عن معركة كستالينغراد بسبب حجمها وعدد الفاعلين والمقاتلين والضحايا. يمكنك أن تروي القصّة على أيّ مستوى. النّخب التي تواجهت كانت أسطوريّة: لديك هتلر وفريقه، وجنرالات مثل ويلهلم باولوس وفون مانستين، وعندك على الجهة الأخرى، ستالين وغرفة قيادته «الستافكا»، ومعه ضبّاط من طراز جوكوف وتيموشينكو؛ وفي الجنوب خروتشيف ويريمينكو ينظّمان الدفاع عن المدينة المحاصرة؛ وشويكوف وجيشه الـ62 الذي حمل عبء الدفاع في وجه الإعصار الألماني وقاتل قتالاً يائساً لأكثر من خمسة أشهر (في أكثر المراحل حراجة، حين وصلت القوات النازية فعليا الى مدخل مقرّ شويكوف، طالب بأن ينقل جزء من غرفة القيادة الى خارج المدينة، على الضفة المواجهة من الفولغا، فواجهه خروتشيف ويريمينكو برفضٍ قاطع؛ التزاماً بمقولة «لا خطوة الى الوراء»). في الجيش الجوي الثامن السوفياتي، وحده، كنت تجد أبناء لخروتشيف وميكويان وستالين نفسه يقودون الطائرات دفاعاً عن المدينة ــ وحين زار مالينكوف، ممثلاً ستالين، قيادة الجيش الجوي استدعى الطيّار فاسيلي ستالين وتقصّد أن يقرّعه ويذلّه ويهدّده أمام زملائه بسبب أدائه القاصر: «ايها الرّائد ستالين... هل نسيت كيف تقاتل؟».
ولكنّها قصص «الناس العاديين» التي لا يمكن حصرها، والكمّ الهائل من الموت والعنف والدمار الذي لا يمكن أن تخرج منه بـ«قصّة» (أو تخرج بالقصة التي تريدها): حرس الحدود الرّوس الذين قتلوا في القصف وهم نائمون، مع عائلاتهم، ما أن بدأ الغزو الألماني و«بارباروسا» (قبل أن يعرفوا حتى أنهم في حالة حرب). آلاف المدنيين الذين قضوا في الغارات الاستهلالية فوق ستالينغراد. الطالبات الروسيات اللواتي كنّ يتولين بطاريات الدفاع الجوي حول المدينة، بعيداً عن خطّ الجبهة، ليفاجأن بالدبابات الألمانية تقترب من مواقعهنّ، فقمن فوراً بخفض المدافع الى مستوى الأفق واستخدامها ضدّ الدبابات المتقدّمة، في فعلٍ يائس، حتّى الموت. المدافعون في قلعة «برست ــ ليتوفسك على الحدود، الذين ظلّوا يقاتلون حتى بعد أن أصبح الجيش الألماني في كييف وبيلوروسيا (نقش أحدهم على الحائط «أنا أموت ولكني لا أستسلم. وداعاً يا وطني»). أو أمور بسيطة، مثل البرقيّة الأخيرة من وحدة في الجيش الأحمر الى غرفة القيادة في الفرقة «المدافع دُمّرت. البطارية محاصرة. نحن نقاتل ولن نستسلم. أطيب التحيّات للجميع».
بل إنّ أهمّ القصص، من غير شكّ، هي تلك التي لم تصلنا ولم تسجّل، ومات أصحابها من غير أن يرووها؛ وهذه من معضلات تاريخ الحروب اذ أنّ أفضل النّاس والشجعان هم عادةً من يموت فيها، وحين يأتي المؤرّخون بعد عقودٍ، لتسجيل الأحداث، يجمعون الروايات من ذاك الذي أبقى رأسه منخفضاً في الخندق.
قتال الفاشيين
الأساس في معركة ستالينغراد هو أنّك، بالمعنى السياسي والأخلاقي، لا تملك أن تكون «نسبويا» وأن ترى الموضوع من وجهة نظر الألمان. العنصرية والفوقية لدى القيادة النازية كانت مذهباً يمارس بلا اعتذاريات. حتى الخطط العسكرية كانت تختلط بمشاريع الاستعمار والإبادة وهندسة المجتمع (هتلر أراد اوكرانيا لكي تصبح مصدر قمحٍ للألمان، والقوقاز للنفط، وأن يصبح السلاف ــ بعد إبادة نخبهم ــ بمثابة مزارعين عبيد، السبب الوحيد لحياتهم ــ على حد قول هتلر ــ هو في أن يخدموا الألمان اقتصادياً). من الغريب أن أدبيات الحرب العالمية الثانية، مع تركيزها على المحرقة اليهودية، لا تتكلّم على العنصرية الإبادية التي وجّهت ضدّ السّلاف، ومارستها القوات النازية على الأرض (يشرح ألبرت سبير في مذكراته أنه، في بداية احتلال اوكرانيا، كان يقدر على التجول بسيارته بلا حماية في تلك المناطق، ولكن بعد سنتين أصبح الأمر متعذّراً بسبب الجرائم الألمانية وكراهية الناس لهم وأعمال المقاومة المتصاعدة). الشعب الروسي هنا لم يكن يحارب دفاعاً عن نظامٍ فحسب، بل كان يدافع عن نفسه ــ حرفياً ــ ضدّ الإبادة. السّوفيات، بالمقابل، كان خطابهم يدعو الى الاشتراكية والأخوّة بين البشر، ويعادي الاستعمار الغربي والعنصرية النازية على حدّ سواء.
بالمناسبة، لم يكن أسوأ من النازيين سوى حلفائهم. حين صارح هتلر الديكتاتور الروماني انتونيسكو بنيته غزو روسيا، ينقل بيفور، ردّ مبتهجاً: «بالطّبع سأكون هناك منذ البداية؛ حين تكون هناك حربٌ ضد السلاف فإنّ في وسعك دوماً الاعتماد على رومانيا». القوميون الأوكران كانوا يرتكبون الجرائم التي يأنف عنها الـ«اس اس» (مُنع كتاب بيفور في اوكرانيا مؤخراً لأنه ذكر، في جملةٍ عابرة، حادثة معروفة عن قتل القوميين الأوكران لأطفالٍ في ميتمٍ بكييف، لأنّ الـ«اس اس» لم يقوَ على تنفيذ المهمّة). السيء في هؤلاء (تماماً مثل أبنائهم اليوم في اوروبا الشرقية) هو ليس حقدهم وعنصريتهم فحسب، بل إنّ كراهيتهم للروس وخرافاتهم وعقدهم كانت تتقدّم حتى على مصالحهم ومصيرهم. يروي بيفور أنّ قيادياً ألمانيا سأل آخر عمّا سيحصل للفلاحين الأوكران بعد أن يسحب المحصول منهم الى المانيا، فأجابه بلا اكتراث: «سيجوعون ويموتون، بالطبع».
في وجه هذا الحلف وجد الرّوس أنفسهم؛ وضدّ جيشٍ ألماني لم يكن قد هزم قطّ في الحرب، حتى بدأ هتلر بتصديق نظرياته عن «قوة الارادة» وأنّه قادرٌ على تجاهل المنطق والحسابات بفضل جيشه والعنصر الألماني المتفوّق. وفي وجه هذا الكمّ من الكراهية والاحتقار صعدت المقاومة السوفياتية. هذا المنطق لخّصه نصٌّ للأديب الروسي ميخائيل سيمونوف، كتبه بعد أن وصف جثّة امرأةٍ مدنيّة روسيّة، جرفها نهر الفولغا وعليها آثار موتٍ رهيب. كلام سيمونوف، بالطّبع، يصلح لأكثر من سياق ويفهمه من مرّ، مثلنا، بتجربة الحرب القاسية وواجه خصوماً كالنازيّين وحلفائهم، جُبلوا بالحقد والكراهية ولا حدود لديهم ولا أعراف. فد تبدو كلمات سيمونوف قاسية ودمويّة للقارئ الغربي ولكنّ ابن سياقنا العربي وحده يفهم كم هي طبيعية و«دفاعية» ولا علاقة لها بالانتقام (ومن خسر كما خسر الرّوس، وكما خسرنا، تموت عنده نزعة الانتقام). يومها، في أصعب مراحل الحصار، كتب سيمونوف راثياً الضحية الروسية المجهولة: «لا بدّ أن العذاب الذي مرّت به، قبل أن يحرّرها الموت، لم يكن محتملاً. الألمان فعلوا هذا! هم فعلوه أمام أعيننا. فعليهم الآن أن لا يطلبوا الرحمة من أولئك الذين شهدوا ما فعلوا. بعد ستالينغراد لن تكون هناك رحمة» (يتبع).
بالمناسبة، لم يكن أسوأ من النازيين سوى حلفائهم. حين صارح هتلر الديكتاتور الروماني انتونيسكو بنيته غزو روسيا، ينقل بيفور، ردّ مبتهجاً: «بالطّبع سأكون هناك منذ البداية؛ حين تكون هناك حربٌ ضد السلاف فإنّ في وسعك دوماً الاعتماد على رومانيا». القوميون الأوكران كانوا يرتكبون الجرائم التي يأنف عنها الـ«اس اس» (مُنع كتاب بيفور في اوكرانيا مؤخراً لأنه ذكر، في جملةٍ عابرة، حادثة معروفة عن قتل القوميين الأوكران لأطفالٍ في ميتمٍ بكييف، لأنّ الـ«اس اس» لم يقوَ على تنفيذ المهمّة). السيء في هؤلاء (تماماً مثل أبنائهم اليوم في اوروبا الشرقية) هو ليس حقدهم وعنصريتهم فحسب، بل إنّ كراهيتهم للروس وخرافاتهم وعقدهم كانت تتقدّم حتى على مصالحهم ومصيرهم. يروي بيفور أنّ قيادياً ألمانيا سأل آخر عمّا سيحصل للفلاحين الأوكران بعد أن يسحب المحصول منهم الى المانيا، فأجابه بلا اكتراث: «سيجوعون ويموتون، بالطبع».
في وجه هذا الحلف وجد الرّوس أنفسهم؛ وضدّ جيشٍ ألماني لم يكن قد هزم قطّ في الحرب، حتى بدأ هتلر بتصديق نظرياته عن «قوة الارادة» وأنّه قادرٌ على تجاهل المنطق والحسابات بفضل جيشه والعنصر الألماني المتفوّق. وفي وجه هذا الكمّ من الكراهية والاحتقار صعدت المقاومة السوفياتية. هذا المنطق لخّصه نصٌّ للأديب الروسي ميخائيل سيمونوف، كتبه بعد أن وصف جثّة امرأةٍ مدنيّة روسيّة، جرفها نهر الفولغا وعليها آثار موتٍ رهيب. كلام سيمونوف، بالطّبع، يصلح لأكثر من سياق ويفهمه من مرّ، مثلنا، بتجربة الحرب القاسية وواجه خصوماً كالنازيّين وحلفائهم، جُبلوا بالحقد والكراهية ولا حدود لديهم ولا أعراف. فد تبدو كلمات سيمونوف قاسية ودمويّة للقارئ الغربي ولكنّ ابن سياقنا العربي وحده يفهم كم هي طبيعية و«دفاعية» ولا علاقة لها بالانتقام (ومن خسر كما خسر الرّوس، وكما خسرنا، تموت عنده نزعة الانتقام). يومها، في أصعب مراحل الحصار، كتب سيمونوف راثياً الضحية الروسية المجهولة: «لا بدّ أن العذاب الذي مرّت به، قبل أن يحرّرها الموت، لم يكن محتملاً. الألمان فعلوا هذا! هم فعلوه أمام أعيننا. فعليهم الآن أن لا يطلبوا الرحمة من أولئك الذين شهدوا ما فعلوا. بعد ستالينغراد لن تكون هناك رحمة» (يتبع).
-عامر محسن
تعليقات
إرسال تعليق