الشتاء النووي والتخطيط للحرب النووية


عندما شرع البريطانيون في تكثيف غاراتهم الجوية على ألمانيا الهتلرية خلال الحرب العالمية الثانية, لم تلبث القيادة الجوية البريطانية أن أدركت أن الطريقة المثلى لتدمير المدن ليس في فصفها بالمتفجرات بل بحرقها تماما. ذلك أن القنابل ذات الانفجار العالي ليس من شأنها أن تحدث سوى أضرار محلية, مما يحتاج الأمر معه إلى تكعيب قوة انفجار القنبلة حتى يمكن تربيع المساحة المدمرة. أضف إلى هذا أن الآلاف من حاملات القنابل البريطانية من طراز لنكستر Lancaster وهاليفاكس Halifax والتي كانت تمثل آنذاك أكبر طائرات الأسطول الجوي المغير على ألمانيا في العام الثالث من الحرب. لم يكن بمقدورها أن تحمل من القنابل ذات الانفجار العالي ما يكفي لأكثر من إحداث فجوات من التدمير داخل المدن. ومن المتفق عليه أن القنابل ذات الانفجار العالي كانت شيئا مخيفا بالنسبة للإنسان، غير أن خطرها كان محدودا وعدد ضحاياها ليس بالكبير عادة.
أما الحريق فهو شيء آخر, لأنه يلتهم وينتشر, فالنار تهاجم كل شيء من أصل عضوي, وذلك بنفس الطريقة التي تهاجم بها الأمراض جسم الإنسان, فهي أشبه بالأوبئة التي تجتاح البلاد, لأنها تلتهم جميع المواد القابلة للاشتعال كالأخشاب والورق ومواد البناء المختلفة, وفي مارس من عام 1942 عندما هاجمت حاملات القنابل البريطانية مدينة لوبيك الألمانية كان الحافز إلى ذلك شوارعها الضيقة ومنازلها الخشبية العتيقة التي كانت تمثل هدفا جيدا للحريق, وهذا ما حدث فعلا, ولما امتدت الأيام بالحرب هجر البريطانيون الغارات الجوية النهارية التي كانت تهدف نقاطا صناعية محددة, وذلك لفقدهم عددا كبيرا من الطائرات التي جرى إسقاطها بوسائل الدفاع المدني, وأيضا لما أحاط من صعوبة بإصابة الهدف على نحو دقيق, ومن ثم فقد كان الثمن باهظا بينما كانت الحصيلة زهيدة. لكل هذه الأسباب مجتمعة فقد لجأت قيادة حاملات القنابل إلى الغارات الليلية، وذلك بضرب الضواحي المحيطة بالمراكز الصناعية الألمانية. وهكذا عاون الظلام على حماية حاملات القنابل، بينما كانت المدن كبيرة بما فيه الكفاية لإبصارها في العتمة، وإذا حدث ووقع معظم القنابل خارج الأهداف بأميال إلا أنه كان من مقدورها أن تصيب شيئا ما, خاصة مع إتباع منهج الغارات المستمرة الذي عاون على تركيز القصف من الجو. هذا وقد زُودت القنابل بفيوزات تؤدي إلى حدوث الانفجار عقب إصابة الهدف ببرهة من الزمن، حتى يعمل على تقويض البناء من أساسه. كذلك جرى تغيير في حمولة الطائرة، فأصبح ثلث الحمولة يضم القنابل عالية الانفجار التي تحطم النوافذ والأبواب وتسحق الخشب إلى قطع صغيرة كعيدان الثقاب، أما بقية حمولة الطائرة فكانت تتكون من القنابل المحرقة التي تشعل النيران في الركام.
غير أن فن إحراق المدن لم يبلغ الدرجة القصوى إلا في يوليو من العام 1943, وذلك عندما ساقت الغارات المتعاقبة على مدينة هامبورج الألمانية إلى انبعاث ظاهرة جديدة في الحرب هي عواصف النيران. ولقد جرى أفظع تدمير في ليلة27-28 يوليو عندما أسقطت 750 من حاملات القنابل البريطانية ما يعادل 2326 طنا من القنابل على المدينة, كان نصفها من القنابل المحرقة. وكان القصف في تلك الليلة بالذات يمثل سيلا متدفقا بدرجة غير عادية, مما أدى إلى إشعال نار حرائق هائلة نتج عنها ارتفاع في درجة الحرارة بلغ ما يقرب من الألف درجة مئوية في مركز الحريق. وساق هذا بدوره إلى اجتذاب ريح صرصر عاتية من جميع الجهات لتغذي هذه النيران. وكل من وجد نفسه خارج المخابئ ذهب طعمه للنيران, والبعض الآخر ساخت أقدامهم على الإسفلت المنصهر, أو ذابت أجسادهم خارج أبواب الصلب المثبتة على مداخل المخابئ عندما تأخروا في الاحتماء بها. ولما فتح المختبئون الأبواب للخروج بعد انتهاء الغارة وجدوا أنفسهم أمام مستنقعات من الشحم البشري تغطي الأرض. وقد بلغت درجة الحرارة في بعض المخابئ درجة من الشدة أن احترقت أجساد الآدميين داخل تلك الأفران فاكتسبت لونا بنيا داكنا وانكمشت إلى حجم أجسام الأطفال أو ماتوا من الاختناق لأن عاصفة النيران امتصت جميع الهواء من داخل المخابئ. ويتضح من دراسة أجرتها وحدة المسح التابعة لقيادة القاذفات الأمريكية أن عدد ضحايا غارة جوية عادية عل منطقة مدنية كان يبلغ في المتوسط ألفا وثمانمائة وخمسين شخصا غير أن عدد ضحايا تلك الغارة على هامبورج تجاوز الأربعين ألفا. أما هل عاونت هذه الغارة على كسب الحرب, فهو أمر من العسير الجزم به, ذلك أن من أسباب الهجوم على هامبورج كان أهميتها كقاعدة لبناء الغواصات الألمانية التي أحدثت ذلك الفتك الذريع بسفن الحلفاء. وقد خرج من أحواض بناء السفن بميناء هامبورج أربعمائة غواصة أثناء الحرب, نصفها قبل الغارة والنصف الثاني بعدها, ومهما يكن من شيء فإن الغارة على هامبورج أحدثت هزة عنيفة للقيادة العليا الألمانية, وفي ذلك الوقت أقنعت المتحمسين لفكرة الغارات الجوية من بين الحلفاء بأنهم عثروا على المفتاح لهزيمة العدو عن طريق الجو.
وإحداث عاصفة من النيران لم يكن بالأمر السهل كما اتضح بالتالي, بل وجب أن تتضافر فيه عوامل عديدة. بيد أن هذا لم يحل بين قيادة القاذفات وتدمير مدينة دريسدن الألمانية بغارة مماثلة في فبراير عام 1945, كما نجح الأمريكيين تحت قيادة جنرال الطيران كرتيس لوماي Curtis Lemay في القيام بأكبر غارة من هذا الضرب على طوكيو في الشهر التالي لذلك, وذلك عندما أحرقت نيران جهنمية ستة عشر ميلا مربعا داخل المدينة وقتلت ثمانين ألفا من سكانها. وفي أخر ربيع عام 1945 عندما سأل الجنرال هاب أرنولد الجنرال لوماي إلى أي مدى ستطول الحرب ضد اليابان في رأيه, رد عليه هذا الأخير: "أمهلني ثلاثين دقيقة" ثم استدعى أحد معاونيه وقاما بعملية حسابية تتعلق بعدد المدن اليابانية التي يلزم إحراقها, وعدد الطائرات الضروري لهذا والأيام التي يٌحتاج إليها لتنفيذ هذه العملية. ذلك أن إذا لم تتبق مدن للإحراق فمعنى هذا أن الحرب قد وضعت أوزارها. آنذاك رد لوماي على أرنولد: "أول سبتمبر". أما ما حدث بالتالي لهيروشيما فإن الجديد فيه لم تكن عاصفة من النيران (التي أصبحت آنذاك ظاهرة معروفة) بل هو أن الكارثة اذلك,ية التي أصابتها أنها كانت من قنبلة واحدة جرى إسقاطها من طائرة واحدة وكان هذا بمثابة طفرة هائلة في الكم Quantum Jump بالنسبة لتاريخ التطور في وسائل الفناء. ولما أبصر الجنرال لوماي تلك الصور الفوتوغرافية التي أخذت لهيروشيما بعد أيام قليلة من تدميرها, تأكد لي أننا بإزاء ظاهرة غير مألوفة البتة.
وقد كانت ظاهرة إحراق المدن بأكملها ظاهرة أتت بها الحرب العالمية الثانية, وظلت تقض مضاجع العسكريين لمدة عشرين عاما بعد ذلك , ثم ما لبثت أن نفذت أيضا إلى وعي الجماهير. وكنت دائما على ظني بأن هذه الظاهرة لها دور ليس بالضئيل في حمل أعداد كبيرة من الناس على هجر المدن الأمريكية والانتقال إلى الضواحي في الخمسينات من القرن الماضي, ذلك أن ما حدث لمدن مثل كفنتري (إنجلترا) وهامبورج وبرلين (ألمانيا) وطوكيو وهيروشيما (اليابان) أمر ليس في الوسع تجاهله, وساق إلى حقيقة لا سبيل إلى إنكارها: وهي أن الحرب تأكل المدن, لذا وجب إخلاؤها. وأنني على علم تام بأن فكرتي هذه من العسير البرهنة عليها. ومن يدري فلعل نمو الضواحي مرده إلى انتشار استعمال السيارة في وقتنا هذا, أو ربما للانخفاض في أسعار الرهن العقاري Mortgage.
أما الأمر الذي أخذ يحظى بالاهتمام بعد الحرب, وهو أمر لم ينل الانتباه خلال الحرب العالمية الثانية إلا بطريقة عابرة وهو الأعمدة الهائلة من الدخان التي ارتفعت فوق سماء المدن المحترقة والتي لم تلبث أن دفعت بها الريح إلى أسفل فأضفت على مغارب الشمس ألوانا زاهية لأيام تلت, والظاهرة عامة ومعروفة جيدا, فالبراكين التي تنفض رمادها في الجو تضيف العديد من الألوان إلى مغارب الشمس على آلا لاف الأميال من مواضعها. وفي عام 1950 ساق حريق هائل إلى تدمير منطقة من الغابات مساحتها عشرة ألاف كيلومتر مربع بولاية ألبرتا بكندا. وكانت أشجارها التي غلب من بينها الصنوبر غنية بالقطران والراتينج, مما جعل الدخان المنبعث منها أسود اللون زيتيا. ولقد غطى هذا الدخان ما يقرب من نصف مساحة الولايات المتحدة وانتشر عبر الأطلنطي فتم الكشف عنه بأجواء بريطانيا بواسطة طائرة كانت تحلق على علو خمسة وثلاثين ألف قدم, واختزل كمية من الضوء وبلغ سطح الأرض في أوروبا الغربية. ومن طبيعة هذا الدخان أنه يعلق جيدا بالهواء خاصة الدخان المعتم المحمل بالسناج, فجزيئاته ضئيلة الحجم وبإمكانها امتصاص ضوء الشمس وتسخين الهواء المحيط بها, فيظل عالقا في الجو على هيئة طبقة سميكة , وفي أثناء الحرب العالمية الثانية كثيرا ما عادت القاذفات إلى قواعدها وهي مغطاة بالسناج الذي التقطته على ارتفاع يتراوح بين العشرين والثلاثين ألف قدم. أما الدخان الذي اندفع مرتفعا من عاصفة النيران التي أطبقت على هيروشيما, وهي العاصفة التي أحرقت خمسة أميال مربعة من المدينة فإن سبب اندفاعه إلى طبقات التروبوسفير العليا هو الحرارة الشديدة التي تجمعت في آن واحد من النيران التي التهمت المدينة مضافا إليها كرة النار الناشئة عن انفجار القنبلة الذرية نفسها ولقد وصف من بقوا على قيد الحياة من سكانها الظلام الدامس وموجة البرد الشديدة التي وجدوا أنفسهم فيها وذلك في شهر أغسطس. وبالإضافة إلى هذا تكاثف بخار الماء وسقط على الأرض في صورة أمطار سوداء من أثر السناء الذي التقطته خلال سقوطها. وقد ألف فيما بعد روائي ياباني يدعى مسوجي أبوزه قصة بعنوان "المطر الأسود" تتعلق بأحداث قصف هيروشيما وهو يرمز بهذا العنوان إلى شناعة ذلك الحادث.
وفي سخونة الحرب الباردة أضحت مسألة الدخان هي الشغل الشاغل للعلماء وللعسكريين على السواء, وذلك لسبب بسيط هو أن الحرب النووية ستؤدي إلى إطلاق كميات هائلة من الدخان في الجو, وفي ديسمبر من عام 1983 نشر خمسة من العلماء بحثا بمجلة العلوم الأمريكيةScience  أكدوا فيه أن الدخان الذي سينبعث مما لا يتجاوز الألف حريق بمائة مدينة كبرى سيغطي نصف الكرة الشمالي بطبقة من السناج ستظل باقية لوقت كاف فتجلب الظلام في منتصف النهار, وتتسبب في موجة من البرد الشديد تستمر لأشهر بحالها وتسوف إلى حدوث كارثة مناخية وهي الشتاء النووي الذي سيهدد أعدادا كبيرة من النباتات والحيوانات بما فيها الإنسان بالفناء. ولقد جلب اختراع الأسلحة النووية في معيته العديد  من التحذيرات الرهيبة في العشرات الأخيرة من السنين غير أن خطر الشتاء النووي يقف نسيج وحده. ذلك أن من السهل القول بأن الولايات المتحدة وروسيا سيتعرضان لمحن لا مثيل لها في حال نشوب حرب نووية, بل والقول أيضا بأن الحرب النووية ستقضى على الحضارة البشرية كما نعرفها. فهي حضارتنا على أي حال ونحن الذين أقمناها, ولعل هذا يعطينا الحق أيضا في تدميرها. غير أننا لم نأت بالإنسان على الأرض ولم نخلق النوع البشري, ناهيك عن غيره من أنواع الحياة التي تشاطرنا العيش على هذا الكوكب, ولهذا فإن أية سياسة دفاعية تهدد استمرار الحياة على الأرض بهذه الصورة إنما هي محض جنون.
والحرب النووية في مخيلة رجل الشارع إنما تعني الفناء على الدوام ونهاية العالم والحضارة البشرية بشكلها الحالي, وقد بينت العديد من الاستفتاءات أن المواطن الأمريكي يتوقع الفناء في حالة نشوب الحرب النووية, بل إن الكثيرين يتمنون الموت في هذه الحالة, بدلا من الموت البطء نتيجة عواقب الحرب النووية, وإلى عهد قريب لم يشاطر المسئولون العسكريون بل ومعظم العلماء المهتمين بالإستراتيجية النووية, لم يشاطروا في هذه المخاوف الأخروية المتعلقة بنهاية العالم.
والواقع أن إحدى الصفات التي تجمع بين هؤلاء الأخوة في السلاح هو رأيهم المتشدد بأن الحرب النووية لن تكون بتلك الدرجة من السوء بيد أنه من العسير تطمين المواطنين العاديين, وذلك لقناعتهم بأننا تجاوزنا منذ وقت طويل نقطة الهلاك إلى هلاك متعدد Overkill ولي ذلك ضرب من البلاغة فحسب بل والحقيقة واقعة أيضا. ولعل أعصى شيء بالنسبة للجمهور هو لماذا يريد العسكريون المزيد من الأسلحة النووية عندما " يوجد لدينا أكثر مما نحتاج إليه للقضاء على كل فرد لأكثر من عشر مرات, وقد حدث أن أجرى ذات مرة عملية حسابية ليصل بها إلى تحديد مدى ما يحتاج إليه لتدمير جميع الأبنية في العالم بواسطة الموجات الانفجارية Blast Waves , أو ما يكفي لإشعال النار في جميع المواد القابلة للاشتعال على وجه الأرض بواسطة الموجة الحرارية, أو إلى تعريض جميع الأحياء إلى جرعة من ألف وحدة من الوحدات الإشعاعية لمدة ثماني عشر ساعة, وقد خرج بنتيجة مؤداها أنه في الحالتين الأوليتين سيحتاج الأمر إلى مليونين من الميجا طن من المتفجرات (أي ما يعدل 2 تريليون من أطنان مادة التي إن تي TNT), أما في الحالة الثالثة فيكفي ربع تلك الكمية لكل هذا فإن تدمير العالم بحاله بالمعني الحرفي للكلمة فوق طاقة البشر.
ورغما من ذلك فإنه توجد أكثر من طريقة لسلخ القط كما يقول المثل المعروف , فالعلامة (هرمان كان)   (Herman Kahn)(1922-1983) والذي قامت سمعته على مؤلف ضخم ظهر في عام 1960 تحت عنوان "الحرب النووية الحرارية" أو "The Thermonuclear War" تفتق ذهنه في مؤلفه ذاك عن احتمال ظهر رادع أكبر يمنع القوتين الكبيرتين من الالتحام في حرب نووية وأطلق عليه آلة يوم القيامة  Doomsday Machine , والتي سيكون بمقدورها تحطيم كوكبنا إذا ما ضغطت إحدى القوتين العظميين على الزر خوفا من الهزيمة, وخير ما كان يوصف به (هرمان) أنه مفكر وغد Rascal, كان يميل إلى دفع المذهب العقلاني إلى حد المغالاة بغية إثارة أعصاب أتباع المذهب الإنساني. غير أنه جاد للغاية في هدفه الأساسي. فقد أحس إحساسا قويا أن الأسلحة الذرية أضحت حقيقة واقعة في حياتنا الحديثة وأنه ينبغي معالجتها بطريقة عقلانية, وتحاشي النظر إليها على أنها مجرد شيء يمكن التلويح به بطريقة جنونية باستعماله للقضاء على البشرية إذا لم تسر الأمور على ما يرام. وهو يشير بذلك إلى المخططات الحربية التي عملت في سنوات الخمسينات والتي وإن كانت عسيرة على التنفيذ إلا أنها كانت تهدف إلى كشط الإتحاد السوفيتي من على وجه الأرض. ففي العام 1953 وافقت هيئة أركان حرب الأمريكية المشتركة JCS على خطة أطلق عليها Offtackle تفتق عليها ذهن القيادة الجوية الإستراتيجية ساك SAC تحت رئاسة الجنرال كرتيس لوماي, وتهدف في حال اندلاع الحرب إلى مهاجمة موسكو بعشرين قنبلة ذرية وليننجراد بإثنتى عشر قنبلة ذرية هذا ما إلقاء البقية الباقية من الترسانة النووية الأمريكية (وهي تمثل تسعمائة قنبلة في مجموعها) على أهداف أخرى بالإتحاد السوفيتي وشرق أوروبا. وثمة خطة أخرى أطلق عليها اسم "ريبر" Reaper وتمت الموافقة عليها فالقيامة".تالي لذلك كانت ترمي إلى قصف الأهداف السوفيتية بألف وخمسمائة قنبلة, وكان (هرمان) كان يعتقد أن هذا المنهج في الحرب الذي يهدف كل شيء أو لا شيء هو منهج خاطئ في التفكير. لذا فقد هاجمه بطريقة غير مباشرة في فكرته التي عرضها في "آلة يوم القيامة" .
والفكرة التي تضمنها اقتراح (هرمان) كان لصنع "آلة يوم القيامة" والتي كانت وليدة مخيلة بسيطة في جوهرها. هي أن تشحن هوة عميقة من باطن الأرض سواء بحفرها أو العثور عليها بطريقة ما بآلاف القنابل النووية من فئة الميجا طن بحيث تهدد بتحطيم القشرة الأرضية بل وتحطيم الأرض ذاتها إلى قطع متناثرة. وقد أنهى كلامه في هذا الصدد بأن هذه الخطة حتى وإن كانت ممكنة التنفيذ إلا أنه ستنطوي على الغباء لأنها ستدمر الكرة الأرضية ولن تردع, لأن الطرف الآخر سيظل على درجة من القناعة بأنه ليس هناك أحد على هذه الدرجة من الغباء ليضغط على الزر, ومن الطريف أن (هرمان) قد أضاف ما يشبه الحاشية إلى قوله هذا وهو أنه ليس من المستبعد أ يصنع الإنسان مثل هذه الآلة عن طريق الصدفة, ولكنه ختم تحليله بقوله أنه يعتقد أن كوكبنا أكثر مقاومة من هذا وأنه ليس بالوسع القضاء عليه إلا بالقيام بمحاولة حقيقية بهذا الصدد.
وكان (هرمان) يعمل بمؤسسة راند  Rand Corporation في عام 1960, ويتمتع بالحصانة الأمنية التي مكنته من الاطلاع على العديد من الأسرار النووية الأمريكية. ورغما من ذلك فقد فسل كغيره في هذه الآونة من أن يتحقق من ايكولوجيا (البيئة الحياتية) الأرض هشة للغاية, لأنه أهمل الآثار الجانبية للحرب النووية, مثل الدخان المتصاعد من المدن المحترقة, ولم يدر بخلده أن الولايات المتحدة قد أنتجت فعلا آلة يوم القيامة وكانت على أتم استعداد لاستعمالها منذ اعتناقها لخطة ريبر Reaper عام 1954, مع جهل تام بالعواقب التي ستترتب عليها (كالشتاء النووي مثلا).
في عام 1815 وقع حادث رهيب في جزيرة سمباو بأرخبيل إندونيسيا. فقد أعقبت أياما من اهتزازات الأرض دوي هائل أشبه بأصوات المدافع صحبه انفجار مريع اقتلع قمة جبل تمبوره البالغ ارتفاعه أربعة آلاف ومائتي قدم, وأرسل بخمسة وعشرين ميلا مكعبا من الأتربة والصخور في طبقات الغلاف الجوي للأرض, أي ما يعادل مائة مرة المادة التي لفظها بركان سانت هلنز بغرب الولايات المتحدة, أو بركان فيزوف الذي دفن مدينتي هرقلنيوم وبومبي عام 79 ميلادية. وقد بلغت كثافة الغبار والدخان والرماد حدا أن انفجار تمبوره أعقبه ثلاثة أيام من الظلام التام فوق منطقة عرضها أربعمائة ميل, ودفع ثوران البركان بالحطام في الاستراتوسفير, فدار حول الأرض لعام أو عامين قبل أن يجد طريقه إلى سطحها, وقدر العلماء أن سحابة الغبار المنبعث قد تسبب في تبريد سطح الأرض بمعدل تسعة أعشار درجة مئوية. وكان هذا الحدث مؤثرا بدرجة كبيرة على كافة أنحاء العالم, فقد انخفضت درجات الحرارة في الولايات الأمريكية الشمالية الشرقية وتسبب في تلف المحاصيل الزراعية مما أدى إلى ارتفاع أسعارها بصورة لم يرى لها مثيل على مدى المائة والخمسين عاما القادمة, حتى عام 1972, أما بأوروبا فقد أدت برودة الطقس إلى ظهور المجاعة بمناطق عديدة, ولعلها المسئولة عن انتشار وباء التيفوس بايرلندا وانجلترا بل ولرنما أسهمت بطريقة غير مباشرة في بلوغ وباء الكوليرا في أوروبا في الثلاثينات من القرن التاسع عشر.
وفي العام 1975 نشرت الأكاديمية القومية للعلوم دراسة كبرى بعنوان "الآثار بعيدة المدى لتفجيرات الأسلحة النووية على نطاق عالمي" كان خلاصتها أن اشتعال نار حرب نووية كبرى سيؤدي إلى تفكيك طبقة الأوزون فيزيد هذا من كمية الأشعة الفوق البنفسجية النافذة إلى الأرض بدرجة خطيرة, وأن هذا التأثير سيستمر لعدة أعوام إلى أن تتكون طبقة جديدة من الأوزون بالوسائل الطبيعية.

تعليقات

المشاركات الشائعة من هذه المدونة

عشرة حقائق قاسية للحياة بعد الحرب النووية

ستالينغراد 43: كيف تهزم الحصار [1]

سيناريو يوم القيامة: هذا ما ستشهده الساعات الأولى بعد الانفجار النووي.. وهكذا تنجو