ستالينغراد 43: كيف تهزم الحصار [2]
«أشعر بشكلٍ أفضل بكثيرٍ الآن، لأننا بدأنا بتدمير الألمان. كانت هذه هي اللحظة التي ابتدأنا فيها بهزيمة الأفعى. اننا نأسر الكثيرين. لدينا بالكاد الوقت لايصالهم الى معسكرات الاعتقال في الخلف. لقد بدأوا الآن بدفع الثمن مقابل دمائنا، مقابل دموع شعبنا، والإهانات والنّهب. لقد تلقّيت اللباس العسكري الشتوي فلا تقلقي عليّ. الأمور جيّدة هنا. سأعود قريباً الى المنزل بعد النّصر. أرسل اليكِ 500 روبل»
من رسالة جندي سوفياتي الى زوجته بعد عمليّة «أورانوس» ــ 26 ت2، 1943
«أصمدوا! الفوهرر سوف يخرجنا من هنا!»
أمر اليوم الذي أصدره الجنرال باولوس الى الجيش السادس بعد وقوعه تحت الحصار - 27 ت2، 1943
على طول شهرين من المعركة، وصولاً الى أواسط نوفمبر وحلول الشتاء، كان الجيش الألماني مقتنعاً على الدّوام بأنّه على بعد يومٍ أو أسبوعٍ من احتلال ستالينغراد وإنهاء المقاومة فيها؛ فيما هدف القيادة الروسيّة من الجهة الأخرى، ومهمّة المدافعين في المدينة، تلخّصت في تأجيل التقدّم الألماني وإشغال جيشهم داخل ستالينغراد لأطول وقتٍ ممكن.
الحرب في الشوارع
القصف الجوي الألماني، قبل بدء المعركة، كان الخطوة الأولى في تحويل المدينة الى حصن. المدن السليمة ذات الشوارع العريضة من السهل نسبيا احتلالها بسرعة (كما حصل مع خاركوف، التي سقطت من دون تدميرٍ كبير). ولكنّ الرّكام الذي يسدّ الشوارع، والمباني التي تلتوي، والمصانع التي حوّلتها غارات الطيران الى كتل متشابكة، تصبح كلّها مواقع دفاعية ممتازة. إن كانت الحرب خارج ستالينغراد، في السهوب، هي حرب حركةٍ سلاحها الدبابة والمدفع، فإنّ السلاح في شوارع ستالينغراد كان جندي المشاة والرشّاش الخفيف، القنابل اليدوية وقاذفة اللهب، وبندقية القنص. يشرح بيفور أنّ التكتيك السوفياتي في الدّفاع كان يتلخّص في تحويل كتل مبانٍ معيّنة الى «قلاع»، يتحصّن فيها الجنود ويحفرون حولها الخنادق ويطلقون من فوهاتها النّار. هذه النقاط القوية كانت تجبر الألمان على تحويل مسار هجومهم عبر معابر وطرقات معيّنة، تكون هي الأخرى محميّة بمدافع مضادة للدبابات في مواقع محصّنة، أو بدبابة «تي 34» مدفونة في آخر الشّارع.
حين وجد السوفيات أنفسهم محصورين داخل مساحة ضيقة من المدينة، أُخليت المدفعية الثقيلة خارجها، الى الضفة الشرقية من الفولغا. راجمات «كاتيوشا» وحدها ظلّت في المدينة، تحتمي بكتف النّهر حيث لن يطالها قصف الألمان، تخرج لثوانٍ وتطلق صواريخها بسرعةٍ، ثمّ تعود الى الإحتماء. كان صفير الصواريخ يثير رعب الجنود الألمان، يقول بيفور، وكانوا حين تتساقط حولهم صواريخ الـ«كاتيوشا»، يعتقدون أنهم يتعرضون لغارة جويّة. بهذا المعنى، كانت ضربات الـ«كاتيوشا» توازي المفعول النفسي لطائرة «شتوكا» الانقضاضية الألمانية ــ كانت «شتوكا» مزوّدة بصافرةٍ تطلق صريراً مخيفاً حين تغير على جنود العدوّ. يضيف المؤرّخ البريطاني أنّ الأغنية التي لقّبت الرّاجمة باسمها كانت الأغنية الأكثر انتشاراً وشعبية خلال الحرب في الاتحاد السوفياتي (أمّا لماذا تكون أغنية الحرب التي لامست الوجدان الجماعي ــ «كاتيوشا» ــ هي عن فتاة تطمئن حبيبها بأنها ستنتظره وتتعهّد فيها، عمليّاً، بأنها لن تعبث مع غيره فيما هو يخاطر بحياته على الجّبهة، فهذا سؤال مختلف يتعلّق بالطبيعة البشرية، ولن أعلّق عليه هنا).
في إحدى الحالات، يقول المؤرّخ، تمكّنت راجمة «كاتيوشا» من إبادة كتيبة ألمانية كاملة، كانت تتوجّه لتعزيز هجومٍ على مصنع الجرّارات في لحظةٍ حرجة من المعركة (وقد قام المدافعون برصف العربة على منحنى النهر لتكون مائلة وهي تقصف، وتصل صواريخها الى المدى الأقصى). لم يكن من الممكن استخدام المدفعيّة الثقيلة على خطوط القتال، حيث آلاف الجنود من الجانبين يتصارعون على مساحةٍ صغيرة أو مبنى مصنعٍ أو بريد (في حالةٍ شهيرة، كان طابقٌ في أحد المباني في يد الألمان، والذي فوقه في يد السوفيات، وفوقه طابقٌ آخر يمسكه الألمان). لهذا السبب كانت بطاريات المدفعية، على الضفة المقابلة للمدينة، تنشغل برصد وضرب تجمّعات الألمان، وتبقي خطوطهم الخلفية في حالة قصفٍ واستنزاف.
الخطّة هنا كانت أن يلعب السوفيات على نقاط قوّتهم، ويبقوا الجندي الألماني مشغولاً ومستنزفاً طوال الوقت: على خطّ الجبهة انت في جحيم، وفي المواقع الخلفية تضربك المدفعية باستمرار. وقد احترف الروس الهجمات الليلية، من جهةٍ لأنّ الألمان كانوا أقل براعة في القتال في الليل، ومن جهةٍ أخرى لمنع الوحدات الألمانية من الرّاحة، وإشغالهم بالقتال بشكلٍ مستمرّ. في شوارع ستالينغراد وخنادقها والحصون بين ركامها، عرف الألمان الخوف والرّهبة. مع وصول الوحدات السيبيريّة الى المدينة، خرجت أساطير كثيرة، في صفوف الجيش السادس الألماني، عن هؤلاء المقاتلين الأشدّاء، الذين كانوا يصطادون الطرائد في الشرق فأتوا الى ستالينغراد لاصطياد الألمان، وكانوا بارعين في القنص والهجوم الليلي وإعداد الأفخاخ والكمائن. القنّاص الشهير فاسيلي زايتسيف، بالمناسبة، لم يكن أبرز القنّاصين ولا أكبرهم حصيلة مع أنّ قصّته ساهمت في انتشار «حمّى القنص» بين الجنود الرّوس. يكتب بيفور أنّ زايتسيف قد أنجز أقلّ بقليل من 150 إصابة مؤكّدة قبيل عيد الثورة في نوفمبر، بينما حصد أحد زملائه أكثر من 220 جندياً وضابطاً ألمانياً. ومع انتشار مدارس القنص وخبرائه، وتحوّل فنّ القنص الى هواية وطنيّة ومذاهب، تجري عليها نقاشاتٌ في المجلات والصّحف الوطنيّة، اشتهر أكثر من قنّاصٍ بأسلوبه الخاص وحيل التخفّي والخداع (سيبيريٌّ آخر مثلاً، كتب عنه بيفور، كان يعدّ خندقاً «وهمياً» فيه علمٌ أبيض مربوطٌ بماكينة بسيطة، يصلها بحبلٍ ويتحكّم بها من خندقٍ مجاور، وحين يشدّ الحبل وينتصب العلم، ينتظر القنّاص الجنود الألمان ليرفعوا رؤوسهم ويستطلعوا الوضع، ثم ينال منهم من زاوية جانبية).
«أورانوس»
لم يكن هدف الـ«ستافكا» في موسكو هو أن يصمد المدافعون الى ما نهاية، فهذا مستحيل وهو أسوأ درسٍ يمكن استخلاصه من ستالينغراد: التاريخ العسكري يرينا بوضوح أن التمركز في موقعٍ أو مدينة لا يجدي، وستخسر في النهاية مهما فعلت، الّا إن كان هدفك أهو أن تموت بشرف (وهذه عقلية دراميّة أقرب الى هتلر منها الى ستالين). الدّفاع عن المدينة كان جزءاً من خطّة أوسع، تبدأ بضرب الجيش الألماني المتمدّد نحو الفولغا من جانبين في خطوطه الخلفية، وشطره من خاصرته وعزل المهاجمين في ستالينغراد عن الجيوش غربي نهر الدون، وهو ما حصل في عمليّة «اورانوس» أواسط شهر نوفمبر.
لا يجب للبطولات الفرديّة في ستالينغراد أن تعمينا عن العقلانية والتنظيم والتخطيط الذي قامت عليه الحملة. الألمان لم يكونوا يتوقّعون أن يقدر الروس على تنظيم هجومٍ ناجح ضدّهم، ناهيك عن حرب مدرّعات متحرّكة (على النّمط الألماني)، تخترق فيها جيوشٌ سوفياتية جبهة الألمان من الخلف بآلاف الدبابات، وتلتقي من جهتين في بلدة «كالاش» في الوسط، لتحاصر مئات آلاف الجنود في جيبٍ صغير. ما هو أهمّ من تنفيذ عملية «أورانوس» كان التحضير لها، والسريّة التامّة التي جرى بها حشد أكثر من مليون ونصف مليون جندي، الى درجة أنّ الألمان لم يتوقّعوا توقيت الهجوم أو مكانه أو أهدافه، حتّى وجد الجيش السادس نفسه محاصراً. يقول بيفور إنّ حماسة الجنود السوفيات وهم يقومون، أخيراً، بردّ الصاع للنازيين جعل المعنويات خلال عملية «أورانوس»، والفرح لنجاحها، أكبر حتى من مشاعر النصر يوم استسلام برلين.
بمعنى آخر، النّصر في ستالينغراد كان نتاج تفوّق السوفيات في كلّ الميادين: حرب الشوارع، حرب المدرعات والمناورات الواسعة، والتخطيط والإمداد. من يتكلّم عن «الإرادة» بالمعنى الرومانسي كان هتلر والنازيون؛ وحين تمت محاصرة الجيش السادس وتبيّن أن إنقاذه صار شبه مستحيل، أصبح همّ هتلر هو في تبرير الهزيمة وإخراجها، وليس إنقاذ الجنود والنّصر. بل إنّ هتلر كان يتوقّع انتحارات جماعية في صفوف قادته، وقد ساءه أن يستسلم باولوس وزملائه بدلاً من الانتحار فداءً لـ«القضية» ــ قام هتلر في الأيام الأخيرة للحصار بتوزيع الميداليات والترقيات على باولوس، الذي أصبح «فيلد مارشال»؛ وهذا كان تكتيكاً خسيساً يهدف الى «إحراجه» بالأوسمة ودفعه الى الانتحار، بمعنى أنّ من تلقّى هذه الرتب والتشريفات من الفوهرر لن يقوم في اليوم التالي بالاستسلام للعدوّ. بطبيعة الحال، لم يتوافق سلوك الأفراد في الجيش الألماني مع تخيّلات هتلر، حتّى الجنرال هايتز، يكتب روبرتس، الذي أعطى جنوده أمراً شهيراً قبيل سقوط الجيش السادس «نقاتل حتى الرصاصة ما قبل الأخيرة»، كان ضباطه يعدون الأعلام البيضاء وهم يبثّون الرسالة، وقد استسلم الجنرال بعدها بأيام.
خلف الكواليس
قبل فترةٍ، حرصت على الحصول على نسخة كاملة (وبترجمة جيّدة) من رواية تولستوي «الحرب والسّلم» حين قرأت أنّ النقاد الأدبيين كانوا يقولون عنها لازمة، وهي أنّ الرّواية تحتوي على «كلّ شيء»؛ كل ما يمكن تخيّله في الحياة: الحبّ، الكراهية، الغيرة، الطبقية، الطموح، كلّ ذلك تجده فيها (وفيها ايضاً أقوى مرافعة ضدّ الزّواج يمكن أن تقرأها في الأدب العالمي). وقد اختار تولستوي لعرض كلّ هذه الأمور سياق الحرب والصّراع. بالمعنى ذاته، معركة مثل ستالينغراد يمكن أن تجد فيها «كلّ شيء»، ولكنّ خلف كلّ هذه العناصر ــ وفي مقدّمها البطولات الفرديّة ــ تجد عوامل سياسية وتنظيميّة كانت أساس الحدث.
لا يذكر بيفور، مثلاً، أنّ ستالينغراد شكّلت ايضاً مواجهة بين النظام الاشتراكي السوفياتي والنّظام النّازي، بين عمّالٍ متساوين في جهة وبين عبيدٍ يعملون في مصانع المانيا (أكثر العمال الذين كانوا ينتجون المعدات والذخائر للـ«فيرماخت» كانوا أسرى حرب ومعتقلين سياسيين)، وقد تفوّق النّظام السوفياتي بوضوح. أصبح الاتحاد السوفياتي ينتج أكثر من ألفي دبابة في الشهر فيما المانيا، في قمّة توسّعها، لا تخرج من خطوط انتاجها أكثر من 500 دبابة. الطائرات الروسية، التي كانت في حالة دونيّة واضحة أمام الطيران الألماني في بداية الغزو، أصبحت في نهاية الحرب من أفضل المقاتلات في اوروبا (طائرات «ياكوفليف»، من «ياك 1» الى «ياك 8»، كانت من أبرع تصاميم المقاتلات في الحرب العالمية: بسيطة ورخيصة وعالية الأداء). هذا حتّى لا نتكلّم على دبّابة «تي 34» الشهيرة. مع حلول سنة 1943 كان الضباط الرّوس أكثر براعةً وكفاءةً، في الحرب الحديثة، من فريق القيادة لدى الألمان. وما ينساه المراقبون بسهولة هو أنّ الصّعوبة في الحرب لا تقتصر على السّلاح والقتال، بل ايضاً في تزويد ملايين المقاتلين الرّوس، مثلاً، بـ«عدّة الشتاء» (كانت، بحسب بيفور، تتضمن قفازات من فرو الأرنب، معطف مبطّن، سترة داخلية من صوف الحملان، وقبّعة «يوشانكا» من الفرو الرّمادي) فيما كان الجيش الألماني يتخبّط في الوحول وسوء الإمداد.
قبل كلّ هذا، يجب أن نفهم أنّ المقاتل والعامل والمواطن السوفياتي الذي تطوّع للقتال وصمد في وجه أصعب الظّروف وحوّل النّصر الى هدفٍ شخصيّ له (يلاحظ بيفور أن أغلب رسائل الجنود الألمان الى عائلاتهم كانت عاطفية وتتكلم عن الحنين الى المنزل، فيما رسائل السوفيات كلّها تتكلّم عن ضرورة النّصر وأهمية المعركة) لم يفعل ذلك بسبب الخوف أو الأوامر. لدينا، هنا، قبل أيّ شيء، مواطنٌ يفهم أنّ هذه الدّولة ملكه، وهذا المصنع له، وهذه الحرب حربه وأنّه، بدفاعه عن النّظام في وجه النازيّين، انّما هو يدافع عن نفسه. هذا ما يسمّيه بعض علماء السياسة «تسييس الشعب» politicization، ودمجه في مهام الدولة والأمن والعمل والنقابات. هذا الشّعور بالانتماء هو ما جعل مواطناً مسنّاً من ستالينغراد يرافق ابنه الى مركز التجنيد، ليكتشف الولد بأنّ أباه يريد التطوّع معه (قال أنّه قاتل في أربعة حروبٍ في حياته، وهو لا يريد أن يفوّت هذه)، أو ما دفع بوحداتٍ من الجيش شرقي نهر الدون إلى الصّمود بشكلٍ يائس لتأخير تقدّم الألمان، لتنسحب القلّة المتبقية سباحة الى الضفّة الأخرى (يروي بيفور أنّ جندياً من هذه الوحدة، بعد أيّام من الضغط والحصار واليأس، وقف فجأةً وبدأ بالاتجاه صوب خطوط الألمان، فانتبهت اليه جندية تعمل ممرّضة وصرخت برفاقها «أنظروا الى الأفعى، انّه يحاول الاستسلام»، قبل أن ترديه بسلاحها).
المقارنة مغرية هنا مع «الدولة البيروقراطية» التي بناها خروتشوف وبريجينيف وهي، مع أنّها كانت توزّع الموارد على النّاس ولا تحاسب على السياسة والآراء، أخرجت الجماهير من نطاق السياسة، وحوّلت السياسة الى مجالٍ للنخب والتكنوقراط. هذا هو النّظام الذي سقط، من دون حرب، من غير أن يرفع أحدٌ من المواطنين ــ أو الجيش، أو المنظمات، أو نخب المديرين التي تقود النظام ــ اصبعاً ضدّ ما يحصل، كأنّهم اعتبروا أنّ ما يجري لا يعنيهم (المخابرات، للمفارقة، كانت الجهاز الوحيد الذي حاول فعل شيءٍ في تلك المرحلة). شتاء 1943 كان سياقاً مختلفاً بالكامل في الاتّحاد السوفياتي، ومعركة ستالينغراد كانت تعبيراً عن حالةٍ جماعيّة. في يوم استسلام الجيش السّادس، حين كان جنودٌ روسٌ يقودون أسرى ألمان عبر المدينة المدمّرة، أوقفهم ضابطٌ سوفياتي وصرخ في وجه الألمان، وهو يشير الى الحطام من حوله، «هكذا سيكون منظر برلين».
-عامر محسن
من رسالة جندي سوفياتي الى زوجته بعد عمليّة «أورانوس» ــ 26 ت2، 1943
«أصمدوا! الفوهرر سوف يخرجنا من هنا!»
أمر اليوم الذي أصدره الجنرال باولوس الى الجيش السادس بعد وقوعه تحت الحصار - 27 ت2، 1943
على طول شهرين من المعركة، وصولاً الى أواسط نوفمبر وحلول الشتاء، كان الجيش الألماني مقتنعاً على الدّوام بأنّه على بعد يومٍ أو أسبوعٍ من احتلال ستالينغراد وإنهاء المقاومة فيها؛ فيما هدف القيادة الروسيّة من الجهة الأخرى، ومهمّة المدافعين في المدينة، تلخّصت في تأجيل التقدّم الألماني وإشغال جيشهم داخل ستالينغراد لأطول وقتٍ ممكن.
الحرب في الشوارع
القصف الجوي الألماني، قبل بدء المعركة، كان الخطوة الأولى في تحويل المدينة الى حصن. المدن السليمة ذات الشوارع العريضة من السهل نسبيا احتلالها بسرعة (كما حصل مع خاركوف، التي سقطت من دون تدميرٍ كبير). ولكنّ الرّكام الذي يسدّ الشوارع، والمباني التي تلتوي، والمصانع التي حوّلتها غارات الطيران الى كتل متشابكة، تصبح كلّها مواقع دفاعية ممتازة. إن كانت الحرب خارج ستالينغراد، في السهوب، هي حرب حركةٍ سلاحها الدبابة والمدفع، فإنّ السلاح في شوارع ستالينغراد كان جندي المشاة والرشّاش الخفيف، القنابل اليدوية وقاذفة اللهب، وبندقية القنص. يشرح بيفور أنّ التكتيك السوفياتي في الدّفاع كان يتلخّص في تحويل كتل مبانٍ معيّنة الى «قلاع»، يتحصّن فيها الجنود ويحفرون حولها الخنادق ويطلقون من فوهاتها النّار. هذه النقاط القوية كانت تجبر الألمان على تحويل مسار هجومهم عبر معابر وطرقات معيّنة، تكون هي الأخرى محميّة بمدافع مضادة للدبابات في مواقع محصّنة، أو بدبابة «تي 34» مدفونة في آخر الشّارع.
حين وجد السوفيات أنفسهم محصورين داخل مساحة ضيقة من المدينة، أُخليت المدفعية الثقيلة خارجها، الى الضفة الشرقية من الفولغا. راجمات «كاتيوشا» وحدها ظلّت في المدينة، تحتمي بكتف النّهر حيث لن يطالها قصف الألمان، تخرج لثوانٍ وتطلق صواريخها بسرعةٍ، ثمّ تعود الى الإحتماء. كان صفير الصواريخ يثير رعب الجنود الألمان، يقول بيفور، وكانوا حين تتساقط حولهم صواريخ الـ«كاتيوشا»، يعتقدون أنهم يتعرضون لغارة جويّة. بهذا المعنى، كانت ضربات الـ«كاتيوشا» توازي المفعول النفسي لطائرة «شتوكا» الانقضاضية الألمانية ــ كانت «شتوكا» مزوّدة بصافرةٍ تطلق صريراً مخيفاً حين تغير على جنود العدوّ. يضيف المؤرّخ البريطاني أنّ الأغنية التي لقّبت الرّاجمة باسمها كانت الأغنية الأكثر انتشاراً وشعبية خلال الحرب في الاتحاد السوفياتي (أمّا لماذا تكون أغنية الحرب التي لامست الوجدان الجماعي ــ «كاتيوشا» ــ هي عن فتاة تطمئن حبيبها بأنها ستنتظره وتتعهّد فيها، عمليّاً، بأنها لن تعبث مع غيره فيما هو يخاطر بحياته على الجّبهة، فهذا سؤال مختلف يتعلّق بالطبيعة البشرية، ولن أعلّق عليه هنا).
في إحدى الحالات، يقول المؤرّخ، تمكّنت راجمة «كاتيوشا» من إبادة كتيبة ألمانية كاملة، كانت تتوجّه لتعزيز هجومٍ على مصنع الجرّارات في لحظةٍ حرجة من المعركة (وقد قام المدافعون برصف العربة على منحنى النهر لتكون مائلة وهي تقصف، وتصل صواريخها الى المدى الأقصى). لم يكن من الممكن استخدام المدفعيّة الثقيلة على خطوط القتال، حيث آلاف الجنود من الجانبين يتصارعون على مساحةٍ صغيرة أو مبنى مصنعٍ أو بريد (في حالةٍ شهيرة، كان طابقٌ في أحد المباني في يد الألمان، والذي فوقه في يد السوفيات، وفوقه طابقٌ آخر يمسكه الألمان). لهذا السبب كانت بطاريات المدفعية، على الضفة المقابلة للمدينة، تنشغل برصد وضرب تجمّعات الألمان، وتبقي خطوطهم الخلفية في حالة قصفٍ واستنزاف.
الخطّة هنا كانت أن يلعب السوفيات على نقاط قوّتهم، ويبقوا الجندي الألماني مشغولاً ومستنزفاً طوال الوقت: على خطّ الجبهة انت في جحيم، وفي المواقع الخلفية تضربك المدفعية باستمرار. وقد احترف الروس الهجمات الليلية، من جهةٍ لأنّ الألمان كانوا أقل براعة في القتال في الليل، ومن جهةٍ أخرى لمنع الوحدات الألمانية من الرّاحة، وإشغالهم بالقتال بشكلٍ مستمرّ. في شوارع ستالينغراد وخنادقها والحصون بين ركامها، عرف الألمان الخوف والرّهبة. مع وصول الوحدات السيبيريّة الى المدينة، خرجت أساطير كثيرة، في صفوف الجيش السادس الألماني، عن هؤلاء المقاتلين الأشدّاء، الذين كانوا يصطادون الطرائد في الشرق فأتوا الى ستالينغراد لاصطياد الألمان، وكانوا بارعين في القنص والهجوم الليلي وإعداد الأفخاخ والكمائن. القنّاص الشهير فاسيلي زايتسيف، بالمناسبة، لم يكن أبرز القنّاصين ولا أكبرهم حصيلة مع أنّ قصّته ساهمت في انتشار «حمّى القنص» بين الجنود الرّوس. يكتب بيفور أنّ زايتسيف قد أنجز أقلّ بقليل من 150 إصابة مؤكّدة قبيل عيد الثورة في نوفمبر، بينما حصد أحد زملائه أكثر من 220 جندياً وضابطاً ألمانياً. ومع انتشار مدارس القنص وخبرائه، وتحوّل فنّ القنص الى هواية وطنيّة ومذاهب، تجري عليها نقاشاتٌ في المجلات والصّحف الوطنيّة، اشتهر أكثر من قنّاصٍ بأسلوبه الخاص وحيل التخفّي والخداع (سيبيريٌّ آخر مثلاً، كتب عنه بيفور، كان يعدّ خندقاً «وهمياً» فيه علمٌ أبيض مربوطٌ بماكينة بسيطة، يصلها بحبلٍ ويتحكّم بها من خندقٍ مجاور، وحين يشدّ الحبل وينتصب العلم، ينتظر القنّاص الجنود الألمان ليرفعوا رؤوسهم ويستطلعوا الوضع، ثم ينال منهم من زاوية جانبية).
«أورانوس»
لم يكن هدف الـ«ستافكا» في موسكو هو أن يصمد المدافعون الى ما نهاية، فهذا مستحيل وهو أسوأ درسٍ يمكن استخلاصه من ستالينغراد: التاريخ العسكري يرينا بوضوح أن التمركز في موقعٍ أو مدينة لا يجدي، وستخسر في النهاية مهما فعلت، الّا إن كان هدفك أهو أن تموت بشرف (وهذه عقلية دراميّة أقرب الى هتلر منها الى ستالين). الدّفاع عن المدينة كان جزءاً من خطّة أوسع، تبدأ بضرب الجيش الألماني المتمدّد نحو الفولغا من جانبين في خطوطه الخلفية، وشطره من خاصرته وعزل المهاجمين في ستالينغراد عن الجيوش غربي نهر الدون، وهو ما حصل في عمليّة «اورانوس» أواسط شهر نوفمبر.
لا يجب للبطولات الفرديّة في ستالينغراد أن تعمينا عن العقلانية والتنظيم والتخطيط الذي قامت عليه الحملة. الألمان لم يكونوا يتوقّعون أن يقدر الروس على تنظيم هجومٍ ناجح ضدّهم، ناهيك عن حرب مدرّعات متحرّكة (على النّمط الألماني)، تخترق فيها جيوشٌ سوفياتية جبهة الألمان من الخلف بآلاف الدبابات، وتلتقي من جهتين في بلدة «كالاش» في الوسط، لتحاصر مئات آلاف الجنود في جيبٍ صغير. ما هو أهمّ من تنفيذ عملية «أورانوس» كان التحضير لها، والسريّة التامّة التي جرى بها حشد أكثر من مليون ونصف مليون جندي، الى درجة أنّ الألمان لم يتوقّعوا توقيت الهجوم أو مكانه أو أهدافه، حتّى وجد الجيش السادس نفسه محاصراً. يقول بيفور إنّ حماسة الجنود السوفيات وهم يقومون، أخيراً، بردّ الصاع للنازيين جعل المعنويات خلال عملية «أورانوس»، والفرح لنجاحها، أكبر حتى من مشاعر النصر يوم استسلام برلين.
بمعنى آخر، النّصر في ستالينغراد كان نتاج تفوّق السوفيات في كلّ الميادين: حرب الشوارع، حرب المدرعات والمناورات الواسعة، والتخطيط والإمداد. من يتكلّم عن «الإرادة» بالمعنى الرومانسي كان هتلر والنازيون؛ وحين تمت محاصرة الجيش السادس وتبيّن أن إنقاذه صار شبه مستحيل، أصبح همّ هتلر هو في تبرير الهزيمة وإخراجها، وليس إنقاذ الجنود والنّصر. بل إنّ هتلر كان يتوقّع انتحارات جماعية في صفوف قادته، وقد ساءه أن يستسلم باولوس وزملائه بدلاً من الانتحار فداءً لـ«القضية» ــ قام هتلر في الأيام الأخيرة للحصار بتوزيع الميداليات والترقيات على باولوس، الذي أصبح «فيلد مارشال»؛ وهذا كان تكتيكاً خسيساً يهدف الى «إحراجه» بالأوسمة ودفعه الى الانتحار، بمعنى أنّ من تلقّى هذه الرتب والتشريفات من الفوهرر لن يقوم في اليوم التالي بالاستسلام للعدوّ. بطبيعة الحال، لم يتوافق سلوك الأفراد في الجيش الألماني مع تخيّلات هتلر، حتّى الجنرال هايتز، يكتب روبرتس، الذي أعطى جنوده أمراً شهيراً قبيل سقوط الجيش السادس «نقاتل حتى الرصاصة ما قبل الأخيرة»، كان ضباطه يعدون الأعلام البيضاء وهم يبثّون الرسالة، وقد استسلم الجنرال بعدها بأيام.
خلف الكواليس
قبل فترةٍ، حرصت على الحصول على نسخة كاملة (وبترجمة جيّدة) من رواية تولستوي «الحرب والسّلم» حين قرأت أنّ النقاد الأدبيين كانوا يقولون عنها لازمة، وهي أنّ الرّواية تحتوي على «كلّ شيء»؛ كل ما يمكن تخيّله في الحياة: الحبّ، الكراهية، الغيرة، الطبقية، الطموح، كلّ ذلك تجده فيها (وفيها ايضاً أقوى مرافعة ضدّ الزّواج يمكن أن تقرأها في الأدب العالمي). وقد اختار تولستوي لعرض كلّ هذه الأمور سياق الحرب والصّراع. بالمعنى ذاته، معركة مثل ستالينغراد يمكن أن تجد فيها «كلّ شيء»، ولكنّ خلف كلّ هذه العناصر ــ وفي مقدّمها البطولات الفرديّة ــ تجد عوامل سياسية وتنظيميّة كانت أساس الحدث.
لا يذكر بيفور، مثلاً، أنّ ستالينغراد شكّلت ايضاً مواجهة بين النظام الاشتراكي السوفياتي والنّظام النّازي، بين عمّالٍ متساوين في جهة وبين عبيدٍ يعملون في مصانع المانيا (أكثر العمال الذين كانوا ينتجون المعدات والذخائر للـ«فيرماخت» كانوا أسرى حرب ومعتقلين سياسيين)، وقد تفوّق النّظام السوفياتي بوضوح. أصبح الاتحاد السوفياتي ينتج أكثر من ألفي دبابة في الشهر فيما المانيا، في قمّة توسّعها، لا تخرج من خطوط انتاجها أكثر من 500 دبابة. الطائرات الروسية، التي كانت في حالة دونيّة واضحة أمام الطيران الألماني في بداية الغزو، أصبحت في نهاية الحرب من أفضل المقاتلات في اوروبا (طائرات «ياكوفليف»، من «ياك 1» الى «ياك 8»، كانت من أبرع تصاميم المقاتلات في الحرب العالمية: بسيطة ورخيصة وعالية الأداء). هذا حتّى لا نتكلّم على دبّابة «تي 34» الشهيرة. مع حلول سنة 1943 كان الضباط الرّوس أكثر براعةً وكفاءةً، في الحرب الحديثة، من فريق القيادة لدى الألمان. وما ينساه المراقبون بسهولة هو أنّ الصّعوبة في الحرب لا تقتصر على السّلاح والقتال، بل ايضاً في تزويد ملايين المقاتلين الرّوس، مثلاً، بـ«عدّة الشتاء» (كانت، بحسب بيفور، تتضمن قفازات من فرو الأرنب، معطف مبطّن، سترة داخلية من صوف الحملان، وقبّعة «يوشانكا» من الفرو الرّمادي) فيما كان الجيش الألماني يتخبّط في الوحول وسوء الإمداد.
قبل كلّ هذا، يجب أن نفهم أنّ المقاتل والعامل والمواطن السوفياتي الذي تطوّع للقتال وصمد في وجه أصعب الظّروف وحوّل النّصر الى هدفٍ شخصيّ له (يلاحظ بيفور أن أغلب رسائل الجنود الألمان الى عائلاتهم كانت عاطفية وتتكلم عن الحنين الى المنزل، فيما رسائل السوفيات كلّها تتكلّم عن ضرورة النّصر وأهمية المعركة) لم يفعل ذلك بسبب الخوف أو الأوامر. لدينا، هنا، قبل أيّ شيء، مواطنٌ يفهم أنّ هذه الدّولة ملكه، وهذا المصنع له، وهذه الحرب حربه وأنّه، بدفاعه عن النّظام في وجه النازيّين، انّما هو يدافع عن نفسه. هذا ما يسمّيه بعض علماء السياسة «تسييس الشعب» politicization، ودمجه في مهام الدولة والأمن والعمل والنقابات. هذا الشّعور بالانتماء هو ما جعل مواطناً مسنّاً من ستالينغراد يرافق ابنه الى مركز التجنيد، ليكتشف الولد بأنّ أباه يريد التطوّع معه (قال أنّه قاتل في أربعة حروبٍ في حياته، وهو لا يريد أن يفوّت هذه)، أو ما دفع بوحداتٍ من الجيش شرقي نهر الدون إلى الصّمود بشكلٍ يائس لتأخير تقدّم الألمان، لتنسحب القلّة المتبقية سباحة الى الضفّة الأخرى (يروي بيفور أنّ جندياً من هذه الوحدة، بعد أيّام من الضغط والحصار واليأس، وقف فجأةً وبدأ بالاتجاه صوب خطوط الألمان، فانتبهت اليه جندية تعمل ممرّضة وصرخت برفاقها «أنظروا الى الأفعى، انّه يحاول الاستسلام»، قبل أن ترديه بسلاحها).
المقارنة مغرية هنا مع «الدولة البيروقراطية» التي بناها خروتشوف وبريجينيف وهي، مع أنّها كانت توزّع الموارد على النّاس ولا تحاسب على السياسة والآراء، أخرجت الجماهير من نطاق السياسة، وحوّلت السياسة الى مجالٍ للنخب والتكنوقراط. هذا هو النّظام الذي سقط، من دون حرب، من غير أن يرفع أحدٌ من المواطنين ــ أو الجيش، أو المنظمات، أو نخب المديرين التي تقود النظام ــ اصبعاً ضدّ ما يحصل، كأنّهم اعتبروا أنّ ما يجري لا يعنيهم (المخابرات، للمفارقة، كانت الجهاز الوحيد الذي حاول فعل شيءٍ في تلك المرحلة). شتاء 1943 كان سياقاً مختلفاً بالكامل في الاتّحاد السوفياتي، ومعركة ستالينغراد كانت تعبيراً عن حالةٍ جماعيّة. في يوم استسلام الجيش السّادس، حين كان جنودٌ روسٌ يقودون أسرى ألمان عبر المدينة المدمّرة، أوقفهم ضابطٌ سوفياتي وصرخ في وجه الألمان، وهو يشير الى الحطام من حوله، «هكذا سيكون منظر برلين».
-عامر محسن
تعليقات
إرسال تعليق